(3093) النزف في قاعات العمليات

نزف مابعد منتصف الليل
بقلم خالص جلبي
في الولادة تحدث معجزة الانكماش الأعظم، فبعد سلسلة التقلصات والارتخاء، يخرج الجين ما بين فرث ودم، ثم ينكمش الرحم قبضة واحدة مالها من فواق، ولكن الويل إن لم يحدث الانقباض، وهو ما كان في تلك الليلة العصيبة!!
قبل أن ينتصف الليل بربع ساعة رن عندي التلفون معلنا وقف النوم وقلب نظم الحياة؛ فيستحيل الليل نهارا، والاسترخاء كدا، والرحة عرقا، لقد استحممت في عرقي ودم المريضة في ليلة لاتمح من الذاكرة.
قال لي الدكتور عثمان غندور ـ رحمه الله ـ أنا أعرف عسرة الوقت والأزعاج، ولكن لم نتصل بك إلا لشعورنا أن الأمر يفلت من السيطرة ونخسر المريضة نزفا!
هذا الشعور أعرفه يقينا من الجراحين، حين يستنجدوا بزميلهم جراح الأوعية الدموية، وكل ذلك يحصل بأخلاقية عالية من أجل إنقاذ المريضة أو المصاب، فينسى الطبيب نفسه، ولكن هناك من ضعاف النفوس والخسة مايظنون أن هذا دليل ضعف وماهو بضعف ولكن لايشعرون.
أذكر قصة مشابهة من مدينة باينه (Peine) حيث كنت أعمل في ألمانيا حين اتصل بي (شيلمان Schelman) رئيس قسم جراحة العظام، وأنا أعرف من هو الرجل، لقد كان جنيا في جراحة العظام، يستبدل ملابس العمليات في نصف دقيقة وأنا لا أصدق، ويصلح العظم المكسور فلا يرى الأثر وكأنه لم يكسر، ويسهر على أي كسر وصل في أي لحظة إلى ألإسعاف، فلا يتركه لليوم الثاني، تحت الجر والتثبيت بجبيرة الجبص كما رأيت الكثير أثناء ممارستي في المملكة، فقد فرض علينا التعاون مع جراحي العظام مضطرين مكرهين في زورق واحد في بحر غادر، وليس الكل كذلك، وعلمنا الرحمن أنهم بمن فيهم الجن، فليسوا سواء منهم الصالحون ومنهم دون ذلك كانوا طرائق قددا.
اتصل شيلمان وقال أنا آسف، ولكننا لانصل للحل، وباللغة الألمانية يأتي التعبير مختلفا؛ لانصل للصحيح؟(Wir kommen nicht zu recht)، قلت في نفسي بلهجة لاتخلو من البهجة؛ أخيرا تكسر عنفوانك قليلا ياشيلمان الألماني، وهرعت إلى قاعة العمليات، كان المنظر لشاب قصاب طعن نفسه خطأ، بالسكين في منطقة المغبن؛ ففتح الشريان بدم منهمر.
حاول الفريق ضبط النزف عبثا، وشعروا في النهاية أنهم يغلقون حنفيات الدم، مهددين الطرف بانقطاع التروية والساق بالبتر، والمسألة هنا تحتاج إلى تصنيع الأوعية مكان الإصابة.
نظرت إلى المكان بسرعة، وأحضرت ملاقط الأوعية الخاصة، وعزلت الوريد والشريان بسرعة، وخلال دقائق انقشع ضباب الخوف وزال الدم من الساحة وهم لايصدقون!
قمت بعدها بخياطة الوريد المجروح وكان أسهل، من تصنيع الشريان الذي تطلب أكثر من ساعتين، في محاولة وضع وريد مقلوب الاتجاه مكان الشريان المتهتك.
وصديقي الدكتور غندور كان قد تورط في مصيبة أكبر؟ قال لي لقد حاولنا توليد المريضة (سيدة) هكذا كان اسمها؟ سحبنا الولد بالفاكوم الشفاط (Vaccum) فنزفت؛ حقنا مقبضات الرحم فلم تنفع، قفزنا إلى البطن فشققناه شقا، ثم قمنا باستئصال الرحم كاملا، عسى أن يرحمنا النزف ويرحم المريضة فلم يزدد إلا تدفقا.
هنا تذكرت تلك القصة المرعبة التي كانت والدتي ترويها لي وأنا طفل صغير عن موت جارتها الشابة أثناء الوضع، بعد الولادة مباشرة.
لم يكن الطب متقدما يومها قبل نصف قرن، فضلا عن وجودنا في مدينة حدودية بعيدة.
حاول الطبيب يومها حشو المهبل ودك الرحم بالقطن بدون فائدة، واستمرت في النزف حتى فارقت الحياة.
كنا في سيمفونية رائعة بين النزف وانخفاض الضغط. كان طبيب التخدير الدكتور غياث يوجهنا؛ الآن قفوا .. تابعوا.. الضغط 85 .. الآن تحسن .. لاتقلقوا وضع المريضة مستقر؟ وخلال ثلاث ساعات من الكفاح والتوتر والعرق والدم سيطرنا على الموقف، وبمساعدة 25 وحدة دم وبلاسما (FFP).
خلصت مع السحر، وتابع بعدي جراح المسالك البولية العمل ، للتأكد من سلامة الحالب، وذهب الدكتور غندور عند الساعة الثامنة إلى بيته، قد نجت المريضة، وطار الرحم، ولكن احتار الفريق في مصير فوطة ضائعة لم يهتد لها أيضا بالاستعانة بجهاز الأشعة؟
قامت المريضة بالسلامة، وذهبت إلى بيتها معافاة، وراجعتني في العيادة حية ترزق، تسعى برجلها هذا مغتسل بارد وشراب.
كانت العملية في مشفى جنوبي في عسير، ولكن القصة لم تنته بعد، فقد اكتشف أحد الجراحين انتفاخا في الخاصرة، ليظهر لاحقا أنها الفوطة الضائعة؟
ذهب الجراح الهمام إلى مدير المستشفى ورقص دبكة لبنانية بالفوطة أمام مدير المشفى فاضحا غلطة زميله، الذي بذل مافي وسعه في تلك المعمعة للمريضة ولكن جل من لايسها ولا ينسى؟ وكان ذلك سببا في فتح ملف التحقيق الكريه. وما يلحق ذلك من عقوبات ومساءلات وتشهيرات، فالطبيب رأسماله سمعته والويل له من الإفلاس؟
تم خصم أيام من راتب الغندور، وحين طلب للتحقيق عما فعل؟ قال لهم ظننت أنني سأمنح جائزة لإنقاذ حياة المريضة؟
قال الدكتور عثمان: المريضة مريضتي، وأنا المسئول الأول والأخير في هذه العملية. وسمعت عن مكافأة قدمت للطبيب مكتشف القطب الجنوبي؟ الذي شمت بزملائه، وهو يفتل شاربيه بابتسامة عريضة!
إن المدراء يحبون أن يعرفوا مايجري حولهم، ولكنهم لايحبون الخائن والواشي والجاسوس.
إنها بوابة مختلفة في علم الطب أليس كذلك؟
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.