ملامح الوعي المنهجي في القرآن والسنة (٢) | دورة الوعي المنهجي | د. محمد النوباني

بدأ الشيخ محمد النوباني حديثه عن «الوعي المنهجي» حديثَ من يعرف أنّ أمّتنا لا ينقصها الدليل، ولا يَعْوِزها النص، ولكنها تفتقد الطريق الذي تُفهم به النصوص، وتُنزل به على الواقع. قال إنّ القرآن لا يُفهم إلا وهو متصلٌ بحياة الإنسان، يُخاطبه في موطنه الذي هو فيه، لا في موطنٍ يتخيّله ولا يطيقه؛ فكم من قارئٍ لِسورٍ نزلت في ذروة القوة، ثم أراد أن يُسقطها على لحظة ضعف، فخرج بفهمٍ مشوَّه، أو حماسٍ غير منضبط، أو تديّنٍ منقطع الصلة بالسنن.

ثم مضى الشيخ يشرح أنّ القرآن لم يُنزل ليعطينا جواباً واحداً جامداً، بل ليمنحنا زوايا متعددة للنظر. فالكتاب العظيم يتجلّى في خمس صيغ: سننٌ وقوانين تحكم الوجود، وقصص هي تطبيق لهذه السنن في التاريخ، ونصوص إخبارية تُظهر آثار هذه السنن في المستقبل، وأمثال تُجسّدها في الكون، وأحكام وتوجيهات تختصر خلاصات الهداية في سلوك الإنسان. فإذا أدرك القارئ هذه الصيغ، رأى الواقع كما يريده القرآن، لا كما تفرضه التحليلات الضيقة أو الضجيج الإعلامي.

وبيّن الشيخ أنّ السنن هي الصيغة الحاكمة؛ لأن الرسالة الخاتمة لم تُبنَ على خرق القوانين كما كانت معجزات الأنبياء قبلها، بل على كشف القوانين التي يسير بها الكون والإنسان والتاريخ، لتكون هدايةً باقية ما بقيت الحياة. فمن أخذ السنن ضُبطت رؤيته، ومن جهلها اضطربت خطواته.

وانتقل الشيخ بعد ذلك إلى تطبيق السنن على واقع الأمة، فذكر سُنّة الغثائية التي وصفها النبي ﷺ حين يكثر العدد ويقلّ الأثر، وحين يصبح الخوف من الموت أعظم من حب الحياة بمعناها الحقيقي. واستشهد بقصة طالوت وجالوت مثالاً للفئة القليلة التي رأت الحقيقة من وراء السطح، فغلبت بإدراكها السنني قبل قوتها العدديّة. وبهذا الفهم تُقرأ الأحداث الكبرى، من صلح الحديبية الذي بدا هزيمة وهو في الميزان السنني فتح، إلى وقائع اليوم التي لا تُفهم إلا بمنظار القوانين لا بمنظار الانفعالات.

ثم عدّد الشيخ خصائص التشريع التي لا بد لطالب المنهج أن يستحضرها: الربانية التي تمنع العقل من أن يطغى إذا تجاوز حدّه؛ والحركية داخل إطار ثابت، إذ الإنسان متحرّك ولكن مدار العبودية ثابت لا يُغادره إلا خرج إلى التيه؛ والتوازن الذي لا يصنعه عقل منفرد بل تصنعه الشريعة بمجملها؛ والشمولية التفصيلية التي تعالج أدقّ ما في حياة الفرد والمجتمع؛ والواقعية التي تخاطب الإنسان كما هو، لا كما يتوهّم نفسه؛ ثم العالمية والخلود والإعجاز.

وعند هذا الموضع قال الشيخ كلاماً أشبه بالتحذير: إنّ أعظم ما يضيع فيه الناس اليوم هو التفكير خارج القرآن. فمن تجاوز الوحي في تحليل الواقع أو بناء المشاريع، فقد خرج إلى فضاءٍ لا هداية فيه. وإن لحظةً واحدة يُفكّر فيها المرء خارج إطار النص هي لحظة طغيان، لأن الاستغناء عن الوحي هو بداية الانحراف.

ثم دعا الشيخ إلى فهم الرشد بوصفه ثمرة الوعي المنهجي. فالقرآن يهدي إلى الرشد، والخلفاء سُمُّوا راشدين لأنهم جعلوا المرجعية للوحي لا للاجتهاد المجرّد. ولا يمكن لأمةٍ أن تُعطى قيادة الأرض قبل أن يظهر رشدها، كما لا يُعطى اليتيم مالَه حتى يُرى رشده. ومن هنا نفهم كيف يكون الخطاب: منزلًا يهدي، أو مؤوّلًا يضلّ، أو مبدّلًا يفسد؛ وأن اختيار الخطاب المنزل يفتح أبواب التمكين ولو تتابعت السنن بالابتلاء قبل ذلك.

ثم استحضر الشيخ القصة التي أجاب فيها ابن عباسُ عمرَ رضي الله عنهما حين سأل: كيف تختلف أمةٌ كتابُها واحد؟ فقال: «إنما نزل القرآن فينا، نعلم فيما نزل وعلى ماذا نزل، وسيأتي قومٌ يقرأونه لا يعلمون فيما نزل ولا على ماذا نزل، فيختلفون في تأويله فيقتتلون». وعلّق الشيخ بأن هذه القصة ليست حديثًا في التاريخ، بل تفسيرٌ دقيق لأزمة الأمة اليوم؛ فغياب المنهج لا يورث إلا الاختلاف، ولا يُصلح ما فسد إلا وعيٌ منهجي ترجع به الأمة إلى طريقة الفهم الأولى.

وختم الشيخ بأن الوعي المنهجي لا يبدأ من الأفكار المبعثرة، بل من السياق البنائي للنبوة خلال مراحلها الست في مكة والمدينة؛ تلك المراحل التي نقلت المسلمين من ضعفٍ إلى تمكين. فمن سار في طريق النبوة وجد موضعه، ورأى سننه، واستطاع أن ينقل نفسه وأمته من حال إلى حال، على بصيرة لا على اندفاع.

مؤلفات و مواقع التواصل الخاصة بالدكتور محمد النوباني :

https://linktr.ee/Mohammad_ALNobani

#القرآن_الكريم #تدبر_آيات #التدبر_في_القرآن
#القرآن_الكريم #تدبر_آيات #التدبر_في_القرآن
#المنهاج #السيرة_النبوية #ترتيب_النزول #إمامة_الوحي
#على_منهاج_النبوة #د_محمد_النوباني #محمد_النوباني#الحضارة_الإسلامية